معارض الكتاب وصراع البقاء

يوسف عبدالله البركاتي

  

متعة.. وأي متعة... أن تترك كل ما وراءك وما يشغل بالك، ويرهق بدنك؛ لتأتي إلى هذه الرحاب المفعمة بالمعارف.. لتقتني ما طاب لك من أطايب العلوم والآداب. تتخطفك العناوين والأغلفة هنا وهناك، وتتمنى أن يتسع لك العمر والوقت؛ لتقرأ تلك الألوف المؤلفة من الكتب التي تضم خلاصة ما اعتصرته القرائح والعقول. تلك هي معارض الكتاب في كل مكان ذي بال!..

أعزُّ مكانٍ في الدُّنى سَرْجُ سابحٍ     وخيرُ جليسٍ في الأنامِ كتابُ

إن معارض الكتاب تعد تظاهرة ثقافية وليست سوقًا للكتاب، وقد نالني شرف المشاركة مؤلفًا ومشاركًا في معرض جدة-الرياض (٢٠١٨م)، والرياض (٢٠١٩م)، والقاهرة -الرياض (٢٠٢٢م)، وغيرها، وذلك في حفلات توقيع مسبقة الإعلان لإصداراتي الثلاثة التي رزقني الله إنجازها في ثنايا رحلة السنوات الست الأخيرة.. كنت أُشاهد الحماسة الكبيرة والرغبة المتوقدة لدى كافة الأعمار من الجنسين، وهم يزاحمون بوابات الدخول، ويمتلئ بهم المكان، وتعج بهم الردهات، ساعين إلى تلقف معلومة أو اقتناء جديد.. 

ينتابني شعور قوي أن هناك رهانًا من الجميع -دور النشر والجمهور الكبير- على أن الكتاب التقليدي ما يزال يحظى باهتمام كبير، وسيبقى نجمه بلا أفول! وأن الرهان على الوعي الثقافي كان في محله.

هناك تمثل الأنشطة الثقافية من محاضرات، وندوات، وورش عمل متنفسًا مهمًّا للجمهور والمتابعين والمثقفين، وفرصة للحوار  والنقاش، ومقابلة الشخصيات الثقافية والفنية وجها لوجه، وإجراء نقاشات مباشرة معهم. ففي كل عام، تشهد المنطقة العربية تباعاً انطلاق معارض الكتب التي تُقام في العواصم والمدن الرئيسة من المحيط إلى الخليج، وتستمر عادة قرابة الأسبوعين، يتخللها الكثير من الفعاليات الفكرية والثقافية التي تحتفي بالإصدارات الجديدة لدور النشر المختلفة من داخل تلك الدول أو خارجها. وعادة ما تكون الافتتاحية عبر معرض الدوحة والقاهرة الدولي للكتاب اللذين يُعقدان في منتصف ونهاية يناير/كانون الثاني من كل عام. ثم تنتقل شعلة الثقافة إلى باقي الخليج  والدول العربية.

عندما تلتفت إلى أرقام كل معرض عربي تذهل بمنجزات وفعاليات عملاقة، تتفاءل معها بأن نبض العلم ما يزال بخير، وأن عبارة "متوسط قراءة الإنسان العربي ٦ دقائق في السنة" عبارة ليست دقيقة، خذ مثلاً; معرض القاهرة الأخير - يُعد معرض القاهرة الدولي للكتاب من أهم وأعرق معارض الكتب العربية والدولية، ويأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد معرض فرانكفورت الدولي للكتاب- فقد أنهى في٦ فبراير الجاري دورته الـ ٥٤، ولم تنمحِ من ذاكرتي بعدُ تفاصيل مشاركتي في معرض القاهرة السابق ٢٠٢٢م  للتوقيع على كتابي (آيات الطب في القرآن الكريم -سنن حياة الإنسان-)، فكْم أسرتني كثافة الفعاليات التي شهدتها، وروعة وتطلع المنظمين للنجاح، وتتابع وتطلعات الزائرين الذين يشكلون ملحمة كبرى من التداول الثقافي النشط طيلة ساعات العمل اليومي للمعرض. وفي ظل الأزمات الاقتصادية العالمية  وتراجع  مبيعات الكتاب الورقي؛ طالعتنا البيانات الرسمية لنتائج المعرض بمفاجأة كبيرة، بحضور٣ ملايين و٦٠٠ ألف زائر في ١٢ يوماً، مع تحليلات تتكلم عن قيام ٦٠٪ من عدد الزوار بتنفيذ عمليات شراء.  وهذه الأرقام تقفز بمعرض القاهرة في نسخته الأخيرة ليكون الأول عالميًّا من حيث عدد الزوار (معرض فرانكفورت أكتوبر ٢٠٢٢م الأكثر  نشرًا بمشاركة ٤ آلاف ناشر، بينما لم يتجاوز زواره مئة ألف). أيضاً في الكويت التي شهدت في نوفمبر الماضي عودة رواق معرض الكويت الدولي للكتاب للانطلاق بعد غياب عامين إثر جائحة كورونا، فقد أقيم المعرض في بلد يكتسب زخمًا كبيرًا يستحقه أهلها.  وأبهجني بيع جميع إصداراتي المشاركة لعام٢٠٢٢م.  كذلك تمتاز بعض المعارض بإضافة نوعية أو بمنجز ثقافي ضخم، ففي معرض الشارقة الدولي للكتاب في دورته الـ ٤٠ الذي حققت المركز الأول عالمياً على مستوى بيع وشراء حقوق النشر للعام ٢٠٢١م  وتم إطلاق المجلدات الـ١٧ الأولى من "المعجم التاريخي للغة العربية"  والذي يؤرّخُ -لأول مرة- لمفردات لغة الضاد وتحولات استخدامها عبر ١٧ قرنًا ماضية، بدءًا بعصر ما قبل الإسلام ومرورًا بالعصر الإسلامي، وتتبع اللّفظ في النص القرآني، والحديث النّبويّ الشريف، مرورًا بالشعر الأموي، فالعباسي إلى العصر الحديث، وترصد حركة الألفاظ. و في دورته الـ ٤١ لعام ٢٠٢٢م تم إضافة ١٩ جزءاً جديداً ليكون مجموع ما صدر من "المعجم التاريخي للغة العربية" ٣٦جزءاً.

تطول القائمة بإبداعات معارض الكتب العربية، أرقام تسر الناظر، وتُسْعِد المثقف العربي الواعد.







-       معارض الكتاب السعودية:

تعد المعارض السعودية الأعلى مبيعًا في المنطقة، وتنطلق حالياً في أربع مدن: الرياض، وجدة، والشرقية، وأخيراً المدينة المنورة، تحت إشراف هيئة الأدب والنشر والترجمة التي تسعى إلى تدشين سبعة معارض سنوية موزعة على مختلف مناطق السعودية، على أمل أن تتكامل من أجل صناعة نشرة احترافية.

اتسمت مشاركتي في معارض السعودية بقدر كبير من الحفاوة والتقدير واستيعاب فئة الشباب عامًا بعد عام، ومع الرؤية الطموحة للسعودية ٢٠٣٠م يعزز معرض الرياض الدولي للكتاب مكانته الدولية بين أكبر التجمعات الثقافية في العالم، التي تجمع صنّاع الأدب والنشر والترجمة من المؤسسات والشركات المحلية والدولية مع القراء والمهتمين.  فقد عاد له التوهج من جديد بعد تعطل بسبب جائحة كورونا، فعقد دورته في شهر سبتمبر الماضي بمشاركة ١٢٠٠ دار نشر، ودور بالوكالة تمثل ٣٢ دولة..  كنت أشعر -وما زلت- بفخرٍ خاص أن أخطو في هذا السن جنبًا إلى جنب مع كبار المثقفين في بلادي، كما أن حضور عائلتي ولفيفٍ غامرٍ من الأقارب والزملاء أشعرني بأن الثقافة تقدم لصاحبها أكثر مما يقدم هو لها!

تتعاظم التوصيات في ذهني حول الجهود المنتظرة لتعظيم دور النشر وتقريب الكتاب من جيل الشباب في العالم العربي، لو أنك اطلعت على عناوين الأغلفة الأكثر مبيعاً في أغلب معارض الكتاب ستكتشف أن نبوءة نجيب محفوظ القديمة أننا مقبلون على عصر الرواية قد تحققت بحذافيرها؛ فها هي الرواية تحقق أعلى المبيعات في أغلب المعارض لدرجة أن هناك دور نشر كاملة لم يعد لها من هَمّ سوى اكتشاف أدباء شباب، يكتبون الرواية مهما كان مستوى كتابتهم. ((أمتنا بحاجة أكثر إلى القراءة الواعية في كتب الحضارة والأخلاق والتزكية والعلوم الأكثر نفعًا وأذخر فائدة لأوطانهم)). 



 ختاماً..؛ اليوم نعيش عصرًا تجاوز عصر الفضاء والليزر والذرة إلى عصر الفيمتو ثانية والثورة السيبرانية  والكتاب المسموع  والمحمول والمرئي. أملي أن تعاصر معارض الكتب هذه الفرصة، وتعمل على توسيع مجالات العرض وفضاءات الترويج. وليبق الكتاب ما بقيت الحياة، أملًا في مستقبل تشرق فيه شمس الثقافة من جديد.

    

هل أعجبك؟


شاركنا تقييمك


أضف تعليقك

التعليقات
أخبار
كتب

جميع الحقوق محفوظة

2024 © دار الحكمة